غاية الإسلام من تحرير النفس البشرية
إن أسمى صورة للنفس الإنسانية، صورتها وهي متحررة من كل لون من ألوان الخضوع والعبودية، ما عدا الخضوع والعبودية لله. وقد حرص الإسلام على أن يصل بالنفس إلى هذا التحرر الكامل وإلى هذه الصورة المثالية الفريدة:
فحررها أولاً، من ذل الخضوع وعبودية السيطرة.
وحررها ثانياً، من الخوف والقلق والاضطراب.
وحررها ثالثاً، من عبودية القيم الزائفة.
وحررها رابعاً، من الهوى والشهوة والمتاع الزائل.
أما تحريرها من الخضوع وعبودية السيطرة، فذلك بالقضاء على الوثنية في كل لون من ألوانها وفي كل مظهر من مظاهرها. فالله وحده هو الذي يملك الحياة والضرر والنفع والعطاء والمنع، وعلى البشر أن يتصلوا به مباشرة؛ فليس ثمة حجاب يحجب عنه أو مانع يحول دون الوصول إليه. وكل ما في السماوات وما في الأرض مسخّر له، والناس جميعاً سواء في العبودية، لا يتميز واحد منهم عن غيره إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وكما أوضح الإسلام هذه الحقيقة وعمّق جذورها في النفس أراد أن يبرزها في واقع الحياة لتكون مشهداً منظوراً يراه الناس. فرسول الله (ص) وهو المعلم والقدوة بدأ بنفسه ليقضي على المخلفات التي شغلت حيزاً كبيراً في نفوس الناس وقلوبهم، فيقول: "احفظ الله يحفظك. احفظ الله تجده أمامك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ولو اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف".
ودخل عليه رجل فارتاع من هيبته، فقال له الرسول (ص): "هوِّن عليك، فلست بملك ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة".
ونهى الذين أرادوا أن يسجدوا له عن السجود وقال لهم: "ما كان لبشر أن يسجد لبشر، ولو صح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها".
وحذّر من كل شيء من شأنه أن يعطي للعظماء أكثر مما يستحقون، ولو بعد الوفاة، فقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. اللهم لا تجعل قبري بعدي عيدا".
وأعظم الناس منزلة من البشر هم الأنبياء والرسل، وأكرم الخلق في الملأ الأعلى هم الملائكة ومع ذلك فلا ينبغي ولا يحل أن يتجه إليهم بأي معنى من المعاني التي تُشعِر معنى العبودية والخضوع.
وأما تحريرها من الخوف والقلق والاضطراب فقد حاول الإسلام أن يقضي على هذه المخاوف بعلاج أسبابها، فقد يكون الخوف على الحياة أو الرزق أو المنزلة أو الوظيفة. فإذا كان الخوف على الحياة فإن ذلك يتنافى مع عقيدة الإيمان، فإن الله هو واهب الحياة وهو الذي يسلبها، وقد جعل لكل إنسان أجلاً لا يستأخر عنه ولا يستقدم: "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً".
وكل ظن يثار حول هذه القضية فهو من ظنون الجاهلية التي تبرّأ منها الإسلام.
ومهما حاول المرء أن يفلت من قدر الله فهو ليس بقادر على ذلك ولا يستطيع إليه سبيلاً: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"..
إذاً فلا معنى للخوف على الحياة ما دامت الأعمار في يد الله وحده.
وإذا كان الخوف على الرزق ولقمة العيش شأن بعض الناس، فإن ذلك لا يجمل بمؤمن يعتقد أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فالرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره: "وما من دابة إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين".
"وكأي من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم".
ويقول صلى الله عليه وسلم – كما روى الطبراني والبزار : ( لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت ) ، وإنما على الإنسان بذل الأسباب المشروعية والضرب في الأرض : ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه والنشور )
و الأرض لم تمنع خيرها يوماً وإنما جهل الناس سنة الله من جانب، وظلموا غيرهم من جانب آخر، فضاقت الأرزاق بين الجهل والظلم.
وإذا كان الخوف والاضطراب والقلق على المكانة الرفيعة والمنزلة التي بلغها الإنسان وهو
يخشى أن تنتزع منه، فإن مصير الأمور إلى الله: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" ويقول : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) ، فيسعى لإطالة العلو والتمكين بالخير والعطاء والعدل والإنصاف ، مع توطين النفس على أن دوام الحال من المحال.
وأما تخليصها من عبودية القيم الزائفة فذلك أن الناس درجوا على تقديس الأنساب والأحساب، وعلى إكبار الجاه والشهرة، وعلى إجلال المال والثروة وإعطاء هذه القيم أكثر مما ينبغي لها من التوقير والإعزاز. فعمل الإسلام على وضع هذه القيم في وضعها الصحيح؛ فهي ليست قيماً ذاتية، والاتصاف بها لا يرفع من قدر الخسيس، وفقدها لا يحط من شأن الرفيع.
فقيمة الإنسان في علمه النافع، وعمله الصالح، وأدبه العالي، وخلقه المتين، وصلته بالله، ونفعه للناس. فهذه هي فضائل الإنسان الذاتية التي تصل به إلى الذروة من الكمال النفسي والسمو الروحي.
أما الحسب والنسب، والجاه والمال، فهي أعراض زائلة لا تكسب النفس زكاة، ولا تهب القلب طهراً، ولا تفيض على الروح سمواً ولا تزيد العقل نوراً. يقول الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وسلم ): "مَن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
فالعمل إذا أخّر صاحبه فإن النسب لا يضعه في المقدمة ولا يسرع به إلى مركز التوجيه والقيادة، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى". فالتفاضل بين الناس إنما هو بتقوى الله، والمحور الذي تدور عليه التقوى هو فعل الخير وترك الشر.
وبقدر ما يقدمه الإنسان من الخير. وبقدر ما يتجنب من الشر بقدر ما يحقق من التقوى التي تصل بالمرء إلى منزلة الكرامة عند الله والوجاهة في الناس: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
والناس فريقان: فريق يتجه إلى الناحية الشكلية فيهتم بها ويحرص عليها. عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) رواه الترمذي وصححه الألباني ،
والمال ليست له قيمة إلا من حيث أنه وسيلة للمطالب التي يحتاج إليها الإنسان في قطع مرحلة هذه الحياة، فإذا تحول إلى غاية وأخذ حيزاً من تفكير الإنسان وعاطفته، فإنه حينئذ يكون قد خرج عن وظيفته الأساسية وشغل النفس بما لا ينبغي أن تشغل به.
وقد عمل الإسلام على أن يوجه نظر الإنسان إلى هذه المعاني، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
والله سبحانه وتعالى يقول: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا مَن آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون".
وللغرائز والميول نزوات عاتية، وكثيراً ما حالت بين الإنسان وبين مثله العليا وأهدافه النبيلة. وقد حرر الإسلام النفس منها بالتزهيد في الشهوات، وحبب إليها التقليل في الرغبات، وحذره من مغبة اتباع الهوى، وأن على الإنسان أن يعلو على كل رغيبة من الرغائب التي لا تحقق نفعاً ولا يتبعها مصلحة: "مَن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون". ويقول تعالى :"إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم".
إن الغاية التي يريدها الإسلام من الإنسان هي أن يحقق العبودية لله وحده؛ والعبوديةُ لله هي أشرف وصف يوصف به العبد. ولا تتحقق العبودية لله إلا إذا تحرر الإنسان من عبودية السيطرة وعبودية الخوف والاضطراب، وعبودية الحسب والنسب والجاه والمال، وعبودية الهوى والشهوة وأصبح عبد الله وحده.
هذه هي روح الاسلام وحقيقته: "ومَن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن".[/size]