عن الحوار الوطني.. أتحدث
د. صالح النملة منذ بزوغ مفهوم الدولة والمفهوم الخاص
بالوحدة الوطنية أصبح مطلباً مهماً، ذلك المفهوم الذي يقوم على مسألة
التقارب الوطني خلف مفهوم فكري موحد أو عقيدة فكرية أو شخصية كارزمية أو
مسألة بناء وتحديث للوطن، ولذلك تلجأ بعض الدول إلى بناء الدولة من مفهوم
الحوار الوطني أو تعيد ترتيب بنائه من خلال إعادة مفهوم الحوار.
إن مفهوم الحوار الوطني دائماً ينبع من أن هناك فكرة رئيسية أو ما يطلق
عليها الفكرة الرئيسية القادرة على الجمع والتحرك، أو بمفهوم قوة المركز
المحركة، وفي المقابل هناك أفكار اخرى تكون تخالف أو لا تتفق مع الفكرة
المركزية؛ وتكون أفكاراً غير قادرة على الانفراد بذاتها إلا عبر الانقسام
وإضعاف المركز.
هناك مثالان جيدان في هذا الجانب.. فلقد عاشت الولايات المتحدة
الامريكية مفهوم الحوار الوطني أثناء تأسيس الجمهورية، وأثناء الحرب
الأهلية، ثم مرحلة الستينيات، ثم مرحلة التسعينيات وكانت هذه الحوارات
الوطنية تنبع من أن فكرة المركز أو الفكرة الرئيسية للجمهورية الامريكية هي
التي يجب أن تسود وتعمم وليس على أن ثقافات الأطراف هي التي يجب أن تشجع
وتبرز، ولذلك فإن ثقافة المركز أو الثقافة السائدة العامة للدولة هي التي
دفعت نفسها من أجل استيعاب الثقافات الاخرى دون أن تفقد ذاتها، ولذلك كانت
الوحدة الوطنية الامريكية أكثر قوةً وأكثر تماسكاً عبر كل التحديات؛ سواء
من الجنوب الأمريكي في حرب الوحدة أو من استيعاب السود وادخالهم إلى النظام
السياسي الأمريكي في الستينيات أو من استيعاب اللاتينيين في مرحلة
التسعينيات وتحديات اللغة والثقافة الاسبانية اللاتينية.
وعلى الجانب الآخر الاتحاد السوفياتي، عندما نجحت الثورة البلشفية أخذت
تشجع الثقافات الجانبية خارج اطار الثقافة الروسية، بل ودفعهم الحماس إلى
بناء شخصية الثقافات الاخرى واللغات الاخرى إلى الدرجة التي حاولوا إيجاد
حروف للهجات واللغات غير المكتوبة، وكان ذلك من أجل تشجيع ثقافات الأطراف
على حساب ثقافة المركز، وبالتالي كانت الحصيلة تفكك الاتحاد السوفياتي، لأن
هذه الثقافات الجانبية أشعلت بفعل الضعف الاقتصادي العام للاتحاد
السوفياتي من أجل الانعتاق من الوحدة السوفياتية السابقة وهذا ما حدث
بالفعل.
وعلى مستوى الحوار الوطني فإن السؤال الجوهري هو التالي: هل الحوار
الوطني يوسع من دائرة الاستيعاب للثقافة المركزية أو الثقافة السائدة؟ من
أجل استيعاب أكبر قدر من الثقافات الجانبية أو ثقافة الأطراف عبر تطوير
ثقافة المركز لتكون قادرة على ضم أكبر قدر ممكن من ثقافة الأطراف دون أن
تفقد ثقافة المركز السائدة جوهرها وهدفها الحقيقي!!.
وهذا إما أنه سوف يعزز اللحمة الوطنية ويخلق شراكة حقيقية بالوطن،وإما
أن البعد الآخر هو الذي سوف يكون السائد عبر تشجيع ثقافات الأطراف من أجل
البروز على حساب الثقافة السائدة وثقافة المركز مما يعني إضعافاً للثقافة
السائدة واستبدالها بثقافة الأطراف وبالتالي التشجيع على محاصرة الثقافة
السائدة وإضعافها أي إضعاف الفكرة المركزية بدلا من تشجيعها على استيعاب
الثقافات الجانبية.
إن الحوار الوطني - أي حوار وطني في أي دولة - يجب أن ينطلق من الفكرة
المركزية السائدة من أجل جمع الأطراف الاخرى وليس من أجل تشجيع الأطراف على
الوقوف في وجه الثقافة السائدة وإضعافها. إن الهدف الحقيقي من أي حوار هو
تشجيع وتطوير الثقافة السائدة المركزية على استيعاب وادخال الثقافات
الجانبية وليس العكس.